الثقافة
يقول العلامة محمود محمد شاكر في كتابه " رسالة في الطريق إلى ثقافتنا "
" فإن (الثقافة)، فاعلم، تكاد تكون سرّا من الأسرار الملثّمة في كل أمّة من الأمم وفي كل جيل من البشر، وهي في أصلها الراسخ البعيد الغَوْر، معارف كثيرة لا تحصى، متنوّعة أبلغ التنوّع لا يكاد يحاط بها، مطلوبة في كلّ مجتمع إنسانيّ للإيمان بها أوّلا عن طريق العقل والقلب= ثمّ للعمل بها حتى تذوب في بنيان الإنسان وتجري منه مجرى الدم لا يكاد يحسّ به ثمّ الانتماء إليها بعقله وقلبه وخياله انتماء يحفظه ويحفظها من اللتفكك والانهيار، وتحوطه ويحوطها حتى لا يفضي إلى مفاوز الضياع والهلاك. وبين تمام الإدراك الواضح لأسرار (الثقافة) وقصور هذا الإدراك، منازل تلتبس فيها الأمور وتختلط، ومسالك تضلّ فيها العقول والأوهام حتى ترتكس في حمأة الحيرة، بقدر بعدها عن لباب هذه (الثقافة) و حقائقها العميقة البعيدة المتشعّبة. وهذا أيضا باب واسع جدّا يحتاج إلى تفصيل لا يحاط به في مثل هذا الموضع. وكن أبدا على حذر، فإنّه ممكن كلّ الإمكان أن يدبّ إليك منه دبيبا خفيّا، مكْر الماكر، وعبَث العابث، واحتيال المحتال، حتى (تحسب الشحم فيمن شحمه ورم)، كما يقول المتنبي " .
تعريف الثقافة : (الثقافة) في جوهرها لفظ جامع يقصد بها الدلالة على شيئين أحدهما مبنيّ على الآخر، أي هما طوران متكاملان:
الطّور الأوّل: أصول ثابتة مكتسبة تنغرس في نفس (الإنسان) منذ مولده ونشأته الأولى حتى يشارف حدّ الإدراك البيّن، جماعها كلّ ما يتلقّاه عن أبويه وأهله وعشيرته ومعلّميه ومؤدّبيه حتى يصبح قادرا على أن يستقلّ بنفسه وبعقله، وتفاصيل ما يتلقّاه الوليد حتى يترعرع أو يراهق، تفوت كلّ حصر بل تعجزه. وهذه الأصول ضرورة لازمة لكل حيّ ناشئ في مجتمع مّا، لكي تكون له (لغة) يبين بها عن نفسه، و(معرفة) تتيح له قسطا من التفكير يعينه على معاشرة من نشأ بينهم من أهله وعشيرته. وهذا على شدّة وضوحه عند الّنظرة الأولى لأنك ألفته ، لا لأنّك فكرّت فيه وعمّقت التفكير، هو في حقيقته سرّ ملثّم يحيّر العقول إدراك دفينه، لأنه مرتبط أشدّ الارتباط، بل متغلغل في أعماق سرّين عظيمين غامضين هما: سرّ (النّطق) وسرّ (العقل) اللّذان تميّز بهما (الإنسان) من سائر ما حوله من الخلق كلّه، وتحيّرت عقول البشر في كيف جاءا؟ وكيف يعملان؟ لأنّ (الإنسان) لم يشهد خلق نفسه حتّى يستطيع أن يستدلّ بما شهد، لكي يصل إلى خبيءِ هذين السرّين الملثّمين المستغلقين البعيدين، وإن توهّم أحيانا بالإلف أنهما قريبان واضحان.
ولأنّ (الإنسان) منذ مولده قد استودع فطرة باطنة بعيدة الغور في أعماقها، توزعه، (أي تلهمه وتحرّكه)، أن يتوجّه إلى عبادة ربّ يدرك إدراكا مبهما أنّه خالقه وحافظه ومعينه، فهو لذلك سريع الاستجابة لكلّ ما يلبّي حاجة هذه الفطرة الخفيّة الكامنة في أغواره. وكلّ ما يلبّي هذه الحاجة، هو الذي هدى الله عباده أن يسمّوه (الدّين)، ولا سبيل البتّة إلى أن يكون شيء من ذلك واضحا في عقل الإنسان إلا عن طريق (اللّغة) لا غير، لأن (العقل) لا يستطيع أ، يعمل شيئا، فيما نعلم، إلا عن طريق (اللغة). فالدّين واللّغة، منذ النشأة الأولى، متداخلان تداخلا غير قابل للفصل، و من أغفل هذه الحقيقة ضلّ الطريق وأوغل في طريق الأوهام. هذا شأن كل البشر على اختلاف مللهم وألوانهم، لا تكاد تجد أمّة من خلق الله ليس لها (دين) بمعناه العام، كتابيّا كان، أو وثنيّا، أو بدعا، ("البدع"،الدين ليس له كتاب أو وثن معبود). ولذلك، فكل ما يتلقّاه الوليد الناشئ في مجتمع ما، من طريق أبويه وأهله وعشيرته ومعلّميه ومؤدبيه، من (لغة) و(معرفة)= يمتزج امتزاجا واحدا في إناء واحد، ركيزته أو نواته وخميرته دين أبويه ولغتهما، وأبلغهما أثرا هو (الدين) فالوليد في نشأته يكون كل ما هو (لغة) أو (معرفة) أو (دين) متقبلا في نفسه تقبل (الدين)، أيّ يتلقّاه بالطاعة والتسليم والاعتقاد الجازم بصحته وسلامته، وهذا بيّن جدا إذا أنت دقّقت النظر في الأسلوب الذي يتلقّى به أطفالك عنك ما يسمعونه منك، أو من المعلّم من المراحل الأولى من التعليم. ويظلّ حال الناشئ يتدرّج على ذلك، لا يكاد يتفصى شيء من معارفه من شيء("يتفصّى":أيّ يتخلّص من هذا المضيق) حتى يقارب حد الإدراك والاستبانة ولكنه لا يكاد يبلغ هذا الحد حتى تكون لغته ومعارفه جميعا قد غمست في (الدين) وسبغت به. وعلى قدر شمول (الدين) لشؤون حياة الإنسان، وعلى قدر ما يحصل من الناشئ، يكون أثره بالغ العمق في لغته التي يفكر بها. وفي معارفه التي ينبني عليها كل ما يوجبه عمل العقل من التفكير والنظر والاستدلال. فهذه هي الأصول الثابتة المكتسبة في زمن النشأة على وجه الاختصار.
الطور الثاني: فروع منبثقة عن هذه الأصول المكتسبة بالنشأة. وهي تنبثق حين يخرج الناشئ من إسار التخسير إلى طلاقة التفكير. وإنما سمّيت (الطور الأوّل): (إيسار التخسير)، لأنه طور لا انفكاك لأحد من البشر منه منذ نشأته في مجتمعه. فإذا بلغ مبلغ الرجال استوت مداركه، وبدأت معارفه يتفصّى بعضها من بعض، أو يتداخل بعضها في بعض، ويبدأ العقل عمله المستتب في الاستقلال بنفسه، ويستبد بتقليب النظر والمباحثة وممارسة التفكير والتنقيب والفصح، ومعالجة التعبير عن الرأي الذي هو نتاج مزاولة العقل لعمله، فعندئذ تكون النواة الجديدة لما يمكن أن يسمّى (ثقافة). وبيّن أنّ سبيله إلى تحقيق ذلك هو (اللغة) و(المعارف) الأول التي كانت في طورها الأوّل مصبوغة بصبغة (الدين) لا محالة، حتى لو استعملها في الخروج على (الدين) الموروث ومناقشته رفضا له أو لبعض تفاصيله. هذه حال النشئ الصغار حتى يبلغوا منزلة الإدراك المستقل المفضي إلى حيّز (الثقافة).
" و(ثقافة) كل أمّة وكل (لغة) هي حصيلة أبنائها المثقفين بقدر مشترك من أصول وفروع، كلها مغموس في (الدين) المتلقّى عند النشء. وهو لذلك صاحب السلطان المطلق الخفيّ على اللغة وعلى النفس وعلى العقل جميعا، سلطان لا ينكره إلا من لا يبالي بالتفكر في المنابع الأول التي تجعل الإنسان ناطقا وعاقلا ومبينا عن نفسه ومستبينا عن غيره. فثقافة كل أمّة مرآة جامعة في حيّزها المحدود كل ما تشعّث وتشتّت وتباعد من ثقافة كل فرد من ابنائها على اختلاف مقاديرهم ومشاربهم ومذاهبهم ومداخلهم ومخارجهم في الحياة. وجوهر هذه المرآة هو (اللغة)، و(اللغة) و(الدين)، كما أسلفت، متداخلان تداخلا غير قابل للفصل البتّة " .
بطلان قول ثقافة عالمية :
" فباطل كل البطلان أن يكون في هذه الدنيا على ما هي عليه، (ثقافة) يمكن أن تكون (ثقافة عالمية)،أي ثقافة واحدة يشترك فيها البشر جميعا ويمتزجون على اختلاف لغتهم ومللهم ونحلهم وأجناسهم وأوطانهم. فهذا تدليس كبير، وإنما يراد بشيوع هذه المقولة بين الناس والأمم، هدف آخر يتعلّق برفض سيطرة أمّة غالبة على أمم مغلوبة، لتبقى تبعا لها. فالثقافات متعددة بتعدد الملل، ومتميزة بتميّز الملل، ولكل ثقافة أسلوب في التفكير والنظر والاستدلال منتزع من (الدين) الذي تدين به لا محالة. فالثقافات المتباينة تتحاور وتتناظر وتتناقش. ولكن لا تتداخل تداخلا يفضي إلى الامتزاج البتّة، ولا يأخذ بعضها عن بعض شيئأ، إلا بعد عرضه على أسلوبها في التفكير والنظر والاستدلال، فإن استجاب للأسلوب أخذته وعدّلته وخلّصته من الشوائب، وإن استعصى نبذته وأطرحته. وهذا باب واسع جدا ليس هذا مكان بيانه، ولكني لا أفارقه حتى أنبّهك لشيء مهم جدّا، هو أن تفصل فصلا حاسما بين ما يسمّى (ثقافة) وبين ما يسمّى اليوم (علما)، (أعني العلوم البحتة)، لأنّ لكل منهما طبيعة مباينة للآخر، فالثقافة مقصورة على أمّة واحدة تدين بدين واحد، والعلم مشاع بين خلق الله جميعا، يشتركون فيه اشتراك واحدا مهما اختلفت الملل والعقائد" .
جزاكم الله كل خير يا درش
ردحذفعلى فكرة الناس معجبة بالكتاب دا لما قلته فى تعليقك على المعرض :)
ما أحوجنا في مثل هذه الأيام الفارقة في تاريخ مجتمعنا أن نهتم بموضوع الثقافة لأننا نريد أن نبني حضارة شامخة والثقافة ركن من أركان أي حضارة كما أن النظام البائد قد شوهة ثقافتنا إلى حد لا يعلمه إلا الله لذا فإنني أدعوا إلى قراءة هذا الكتاب الذي ذكرت بالإضافة إلك كتاب مشكلة الثقافة للمفكر العبقري مالك بن نبي عليه رحمة الله وهذا الكتاب موجود على هذا الرابط أن شاء اللهhttp://www.4shared.com/document/l1VfDiJg/___-__.html
ردحذفالسلام عليكم
ردحذفكلام كبير علي فكرة .. الثقافة دي موضوع كبير اوي
كانت مادة كدة بطولها عندي درستها ولها دكتور ومحاضرات
عشان يتكلم في الثقافة بس
بس الكلام ده جديد
وقرأته مرتين
تحياتي
شكراً ع التوضيح .. :)
ردحذفشكراااً كتييييييييييير ... على المجهود :)
ردحذف